أ.د. عمرو حسن
أستاذ أمراض النساء والتوليد – كلية طب جامعة القاهرة
من الدراما إلى الواقع
في برومو مسلسل “كارثة طبيعية”، يظهر الفنان محمد سلام في مشهد ساخر بعدما يكتشف أن زوجته حامل في خمسة توائم دفعة واحدة.
المشهد يثير الضحك والدهشة معًا، لكنه في الواقع يُجسّد واحدة من أعقد التجارب الإنسانية والطبية في حياة المرأة: الحمل في أكثر من جنين.
وراء الصورة الكوميدية التي نراها على الشاشة، هناك أم حقيقية تخوض معركة يومية بين الألم والأمل، يتغير فيها جسدها، وتختبر فيها حدود طاقتها النفسية والبدنية معًا.
جسد يعمل فوق طاقته
الحمل المتعدد ليس مجرد حدث سعيد، بل تحدٍ فسيولوجي بالغ التعقيد.
فجسد الأم الذي خُلق ليستوعب جنينًا واحدًا، يجد نفسه مطالبًا بإيواء اثنين أو ثلاثة أو خمسة، وتغذيتهم جميعًا من مشيمة واحدة أو أكثر.
يزداد الضغط على القلب والكُلى، ويتضاعف إفراز الهرمونات، ويصبح كل يوم من الحمل إنجازًا جديدًا بحد ذاته.
وفي الوقت نفسه، ترتفع احتمالات الإصابة بواحدة من أخطر مضاعفات الحمل: تسمم الحمل.
تسمم الحمل… الخطر الصامت الذي يترصّد الأمهات
تُظهر الدراسات أن تسمم الحمل هو ثاني أسباب وفيات الأمهات في مصر بعد النزيف، وأن نسبته تتضاعف في حالات الحمل المتعدد.
المرض يبدأ بصمت، دون أعراض واضحة، إلى أن تظهر فجأة مضاعفات خطيرة: ارتفاع ضغط الدم، زلال في البول، صداع، تورم، اضطراب في الرؤية، وربما تشنجات تهدد حياة الأم والجنين.
لكن المدهش أن هذا “الخطر الصامت” يمكن اكتشافه قبل أن يبدأ، من خلال تحليل بسيط في الأسبوع 11–13 من الحمل، يعرف باسم تحليل المؤشرات الحيوية للمشيمة (PAPP-A وPlGF).
الكشف المبكر… العلم الذي يُنقذ قبل أن يتدخل
هذا التحليل، الذي يُجرى في خلال الأسبوع الثاني عشر، لا يحتاج إلا إلى عينة دم واحدة من الأم.
من خلاله يمكن تقييم كفاءة المشيمة وقدرتها على تغذية الأجنة، والتنبؤ بخطر الإصابة بتسمم الحمل أو ضعف نمو الجنين قبل ظهور أي أعراض.
فإذا أظهر التحليل انخفاضًا في بروتين PAPP-A و عامل نمو المشيمة PlGF، فإن ذلك يُعد إنذارًا مبكرًا بأن المشيمة مرهقة، وأن الأم تحتاج إلى متابعة مكثفة وجرعات وقائية من الأسبرين بجرعات منخفضة،
بهذا الفحص البسيط، يمكننا أن نحمي الأم من مضاعفات خطيرة، ونمنح الأجنة فرصة أفضل للنمو داخل رحم آمن.
إنه التحول من علاج الأزمة إلى منعها قبل أن تبدأ ، فلسفة الطب الحديث التي تجعل من العلم درعًا واقيًا للأم قبل أن تصاب بأي ضرر.
المعركة المزدوجة: بين الألم والأمل
تعيش الأم في الحمل المتعدد حالة قلق مستمر:
هل سيُولد جميعهم بسلام؟ هل سيكفي جسدي لحمايتهم؟ هل سأكمل الحمل حتى الشهر التاسع؟
هذه الأسئلة اليومية تُرهق النفس بقدر ما يُرهق الحمل الجسد، ولهذا فإن الدعم النفسي والعاطفي من الزوج والأسرة والطبيب يصبح جزءًا من خطة العلاج وليس رفاهية.
ورغم كل ذلك، تظل تلك الأم صامدة، تتحمل الألم بصمت، وتمنح الحياة مضاعفة دون أن تطلب مقابلًا ،
هي نموذج حي لـ “الأم البطلة” التي تخوض المعركة مرتين: مرة داخل جسدها، ومرة داخل روحها.
بين الرحم والحضانة… معركة البقاء
غالبًا ما تنتهي هذه الرحلات بــ ولادة مبكرة قبل الأسبوع 34، حيث لم تكتمل رئتا الأجنة بعد،
فتتحول فرحة الولادة إلى سباق مع الزمن داخل حضّانات الرعاية المركزة (NICU)، حيث يواجه كل طفل معركته الخاصة من أجل التنفس والنمو والبقاء ،
يعاني العديد من الأطفال المبتسرين من:
نقص الوزن الشديد ، مشكلات في التنفس بسبب عدم اكتمال الرئة ، نقص المناعة ومضاعفات التغذية.
لكن مع الرعاية الحديثة والمتابعة الدقيقة، يمكن لهؤلاء الأطفال أن يخرجوا إلى الحياة أقوى مما بدأوا ، بفضل أمٍّ لم تتخلّ عنهم لحظة واحدة.
من “كارثة طبيعية” إلى بطولة إنسانية
أن كل أم في حمل متعدد هي بطلة حقيقية، وأن وراء كل ولادة ناجحة علمٌ دقيق، وتحليل مبكر، وفريق طبي يسابق الزمن لحماية الحياة.
وربما آن الأوان أن تصبح رسالة الدراما ليست فقط للضحك، بل للتفكير والتوعية…
فمن رحم “الكارثة الطبيعية” يمكن أن تولد قصة أمل جديدة — إن استمعنا لصوت العلم مبكرًا.
إلى كل أم تخوض تجربة الحمل المتعدد…
أنتِ لستِ مجرد حالة طبية أو مشهد درامي، بل درس في الصبر والإصرار والحب غير المشروط.
ولكل طبيب يؤمن بالكشف المبكر والمتابعة الدقيقة:
أنتم من تجعلون المعجزة ممكنة قبل أن تبدأ.
تعليقات المقال